سورة طه - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (طه)


        


قلت: {زهرة}: مفعول بمحذوف، يدل عليه {مَتَّعْنَا} أي: أعطينا، أو على الذم، وفيه لغتان: سكون الهاء وفتحها.
يقول الحقّ جلّ جلاله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {ولا تمدنَّ عينيك} أي لا تطل نظرهما، بطريق الرغبة والميل {إلى ما متّعنا به} من زخارف الدنيا {أزواجًا منهم} أي: أصنافًا من الكفرة، والمعنى: لا تنظر إلى ما أعطيناه أصناف الكفرة من زخارف الدنيا الغرارة، ولا تستحسن ذلك، فإنه فانٍ، وهو من {زهرة الحياة الدنيا} أي بهجتها، ثم يفنى ويبيد، كشأن الزهر، فإنه فائق المنظر، سريع الذبول والذهاب.
متعناهم بذلك، وأعطيناهم الأموال والعز في الدنيا؛ {لنفتنهم فيه} أي: لنعاملهم معاملة من يبتليهم ويختبرهم، هل يقومون بشكره فيؤمنوا بك، ويصرفوه في الجهاد معك، وينفقوه على من آمن معك أم لا؟ أو لنعذبهم في الآخرة بسببه، فلا تهتم بذلك. {ورزقُ ربك} أي: ما ادخر لك في الآخرة {خيرٌ}، أو: ورزقك في الدنيا من الكفاف مع الهُدى، خير مما منحهم في الدنيا، لأنه مأمون الغائلة؛ بخلاف ما منحوه، فعاقبته الحساب والعقاب. {وأبقى}؛ فإنه لا ينقطع نفْسُه أو أثره، بخلاف زهرة الدنيا، فإنها فانية منقطعة.
فالواجب: الاشتغال بما يدوم ثوابه، ولذلك قال له صلى الله عليه وسلم: {وَأْمُرْ أهْلَكَ بالصلاةِ}، أمره بأن يأمر أهل بيته، أو التابعين له من أمته، بالصلاة، بعد ما أمر هو بقوله: {وسبح بحمد ربك} على ما مر؛ ليتعاونوا على الاستعانة على الخصاصة، ولا يهتموا بأمر المعيشة، ولا يلتفتوا لغنى أرباب الثروة. {واصْطَبر عليها}؛ وتكلف الصبر على مداومتها، غير ملتفت لأمر المعاش، {لا نسألك رزقًا} أي: لا نُكلفك أن ترزق نفسك ولا أهلك، {نحن نرزقك} وإياهم، ففرغ قلبك لمشاهدة أسرارنا، {والعاقبةُ} المحمودة {للتقوى} أي: لأهل التقوى. رُوي أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أصاب أَهْلَه ضُر أو خصاصة أَمَرهُمْ بِالصّلاة، وتلا هذه الآية. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ما خوطب به نبينا صلى الله عليه وسلم خوطب به خاصة أمته، فلا تمدن عينيك، أيها الفقير، إلى ما متع به أهل الدنيا، من زهرتها وبهجتها، بل ارفع همتك عن النظر إليها، واستنكف عن استحسان ما شيدوا وزخرفوا، فإن ذلك حمق وغرور. كان عروة بن الزبير رضي الله عنه إذا رأى أبناء السلاطين وشاراتهم دخل داره وتلا: {ولا تمدن عينيك...} الآية. وكان يحيى بن معاذ الرازي يقول لعلماء زمانه: يا علماء السوء؛ دياركم هامانية، ومراكبكم قارونية، وملابسكم فرعونية، فأين السنة المحمدية؟
ولا تشتغل بطلب رزق فرزق ربك- وهو ما يبرز لك في وقتك من عين المنة، من غير سبب ولا خدمة- خير وأبقى-، أما كونه خيرًا؛ فلِمَا يصحبه من اليقين والفرح بالله وزيادة المعرفة، وأما كونه أبقى؛ لأن خزائنه لا تنفد، مع بقاء أثره في القلب من ازدياد اليقين، والتعلق برب العالمين. {وأْمر أهلك بالصلاة} واصطبر أنت عليها، فإن رزقنا يأتيك لا محالة، في الوقت الذي نريده، {لا نسألك رزقًا} لك ولا لأهلك، {نحن نرزقك}، لكن رزق المتقين، لا رزق المترفين، {والعاقبة للتقوى}. وبالله التوفيق.


يقول الحقّ جلّ جلاله: {وقالوا} أي: كفار مكة: {لولا}: هلاّ {يأتينا بآية من ربه} تدل على صدقه، أو بآية مما اقترحوها؛ من تفجير الأرض وتسيير الجبال، ولم يعدوا ما شهدوا من المعجزات التي تخر لها الجبال من قبيل الآيات؛ مكابرة وعنادًا. قال تعالى: {أوَلَمْ تَأْتِهِم بينةُ ما في الصُّحف الأولى} أي: أوَ لَمْ يأتهم القرآن الذي فيه بيان ما في الصحف الأولى؛ التوراة والإنجيل والزبور، وسائر الكتب السماوية لاشتماله على ما فيها، وزيادة علوم وأسرار. وهذا رد من جهته تعالى لمقالتهم، وتكذيب لهم فيها دسوا تحتها، من إنكار إتيان الآية، بإتيان القرآن الكريم، الذي هو أبهر الآيات، وأسنى المعجزات، وأعظمها، وأبقاها؛ لأن حقيقة المعجزة: اختصاص مدّعي النبوة بنوع من الأمور الخارقة للعادة، أيّ أمر كان، ولا ريب في أن العلم أجلْ الأمور وأعلاها؛ إذ هو أصل الأعمال، ولقد ظهر، مع حيازته لعلوم الأولين والآخرين، على يد أمي، لم يمارس شيئًا من العلوم، ولم يدارس أحدًا من أهلها أصلاً، فأيّ معجزة تراد بعد وروده؟ وأيّ آية ترام مع وجوده؟! وفي إيراده بعنوان كونه بينة لما في الصحف الأولى، أي: شاهدًا بحقية ما فيها من العقائد والأحكام، التي أجمعت عليها كافة الرسل، ما لا يخفى من تنويه شأنه وإنارة برهانه، ومزيد تقرير وتحقيق لإتيانه. وقال بعض أهل المعاني: أو لم يأتهم بيان ما في الكتب الأولى، من أنباء الأمم الذين أهلكناهم، لما سألوا الآيات، فأتتهم، فكفروا بها، كيف عجلنا لهم الهلاك؟ فما يُؤمن هؤلاء، إن أتتهم البينة، أن يكون حالهم كأولئك.
{ولو أنَّا أهلكناهم} في الدنيا {بعذابٍ} مستأصل، {من قَبْلِه} أي: من قبل إتيان البينة، وهو نزول القرآن ومجيء محمد صلى الله عليه وسلم، {لقالوا ربنا لولا أرسلتَ إِلينا رسولاً} يدعونا مع كتاب يهدينا، {فنتّبعَ آياتك} التي جاءنا بها، {من قبل أن نَّذِلَّ} بالعذاب في الدنيا، {ونخْزَى} بدخول النار يوم القيامة، ولكنا لم نهلكهم قبل إتيانها، فانقطعت حجتهم، فإذا كان يوم القيامة {قَالُواْ بلى قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ الله مِن شَيْءٍ} [المُلك: 9].
{قُلْ} لأولئك الكفرة المتمردين: {كُلٌّ} أي: كل واحد منكم ومنا، {متربصٌ}: منتظر ما يؤول إليه أمرنا وأمركم، {فتربصوا} فانتظروا. أو كُلٌّ منتظر دوائر الزمان، ولمن يكون النصر، {فتربصوا فستعلمون} عن قريب {من أصحابُ الصراطِ السَّوِيِّ} أي: المستقيم، أو السواء، أي: الوسط الجيد، {ومن اهتدى} من الضلالة، هل نحن أو أنتم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: لا يُشترط في الولي العارف بالله، الداعي إلى الله، إظهار الآيات، ويكفي، برهانًا عليهم، كونهم على بينة من ربهم، وهداية الخلق على أيديهم، وما أظهروه من علم أسرار التوحيد، ومن فنون علم الطريق، مع كون بعضهم أميين، لم يتقدم له مدارسة علم قط، كما شهدناهم، بعثهم الله في كل عصر، يُعرفون بالله، ويدلون على أسرار ذاته وأنوار صفاته، على سبيل العيان، لتقوم الحجة على العباد، فإذا بُعثوا يوم القيامة جاهلين بالله محجوبين عن شهود ذاته، متخلفين عن مقام المقربين، يقولون: لولا أرسلت إلينا رسولاً يُعرفنا بك، فنتبع آياتك حتى نصل إليك، من قبل أن نذل بالانحطاط عن درجة المقربين، أو نخزى بإسدال الحجاب.
يقول الحق تعالى: قد بعثتهم، فأنكرتموهم، فإذا اغتروا اليوم، واحتجوا بقول من قال: انقطعت التربية، فقل: كلٌّ متربص فتربصوا، فستعلمون من أصحاب الصراط السَّوي ومن اهتدى. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق، وصلَّى الله على سيدنا ومولانا محمد، وعلى آله وصحبه، وسلَّمَ تسليمًا.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8